عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-26-2014, 06:00 AM
بهاء الدين شلبي بهاء الدين شلبي غير متواجد حالياً
المدير
 Egypt
 Male
 
تاريخ التسجيل: 16-12-2013
الدولة: القاهرة
العمر: 57
المشاركات: 6,818
معدل تقييم المستوى: 10
بهاء الدين شلبي تم تعطيل التقييم
افتراضي حصري: علم الملكين هاروت وماروت والدجال

الكاتب: بهاء الدين شلبي.
في بحث سابق لي بعنوان علم هاروت وماروت | مدونة: جند الله تكلمت عن علمهما وأنه علم شرعي أنزله الله تبارك وتعالى عليهما فأضافه سحرة الجن إلى سحرهم فزاد من سحرهم قوة فيأتون به بالخوارق بإذن الله وينسبونه كذبا إلى قوة السحر وقد ورد في أمر الدجال أنه معه رجلين وفي رواية ملكين
خطَبَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: (إنه لم يكُنْ نبيٌّ إلا وقد أنذَر الدجالَ أمتَه ألا وإنه أعورُ عينِ الشمالِ وباليُمنى ظفرةٌ غليظةٌ بين عينَيه كافرٌ يعني: مكتوب: ك ف ر يخرجُ معه واديانِ: أحدُهما: جنةٌ والآخرُ: نارٌ فنارُه جنةٌ وجنتُه نارٌ يقولُ الدجالُ للناسِ: ألستُ بربِّكم أُحيي وأُميتُ ؟ ومعه نبيانِ منَ الأنبياءِ إني لأعرِفُ اسمَهما واسمَ آبائِهما لو شئتُ أن أسمِّيَهما سمَّيتُهما أحدُهما عن يمينِه والآخرُ عن يسارِه فيقولُ: ألستُ بربِّكم أُحيِي وأُميتُ ؟ فيقولُ أحدُهما: كذبتَ فلا يسمعُه منَ الناسِ أحدٌ إلا صاحبُه ويقولُ الآخرُ: صدقتَ فيسمَعُه الناسُ وذلك فتنةٌ ثم يسيرُ حتى يأتيَ المدينةَ فيقولُ: هذه قريةُ ذاكَ الرجلِ فلا يؤذَنُ له أن يدخُلَها ثم يسيرُ حتى يأتيَ الشامَ فيُهلِكُه اللهُ , عزَّ وجلَّ , عندَ عقبةِ أفيقَ)
الراوي: سفينة أبو عبدالرحمن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المحدث: البوصيري - المصدر: إتحاف الخيرة المهرة - الصفحة أو الرقم: 8/127
خلاصة حكم المحدث: سنده صحيح
وقد ورد الحديث مرفوعا برواية أخرى في الفتن لحنبل بن إسحاق:
حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : (أَلا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا قَدْ حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ , هُوَ أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُسْرَى , بِعَيْنِهِ الْيُمْنَى ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ : كَافِرٌ . مَعَهُ وَادِيَانِ : أَحَدُهُمَا جُنَّةٌ , وَالآخَرُ نَارٌ , فَنَارُهُ جُنَّةٌ , وَجَنَّتُهُ نَارٌ ، مَعَهُ مَلَكَانِ مِنَ الْمَلائِكَةِ يُشْبِهَانِ نَبِيَّيْنِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ , لَوْ شِئْتُ سَمَّيْتُهَا بِأَسْمَائِهَا وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمَا , أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ , فَيَقُولُ الدَّجَّالُ لِلنَّاسِ : أَلَسْتُ رَبَّكُمْ ؟ أَلَسْتُ أُحْيِي وَأُمِيتُ ؟ فَيَقُولُ أَحَدُ الْمَلَكَيْنِ : كَذَبْتَ , فَمَا سَمِعَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلا صَاحِبُهُ , فَيَقُولُ لَهُ صَدَقْتَ , فَيَسْمَعُهُ النَّاسُ فَيَظُنُّونَ إِنَّمَا صَدَّقَ الدَّجَّالَ , فَذَلِكَ فِتْنَتُهُ , ثُمَّ يَسِيرُ حَتَّى يَأْتِيَ الشَّامَ , فَيُهْلِكُهُ اللَّهُ عِنْدَ عَقَبَةِ أَفِيقَ) .
وأرى في ضوء هذين النصين أن الملكين أو النبيين هما هاروت وماروت .. ولا أرى تعارضا بين أن يكونا ملكين من ملائكة الجن كناية عن عصمتهما .. وبين وأن يكونا نبيين ولكنهما من أنبياء الجن لا من أنبياء الإنس .. وأن الدجال استغل ما حصل عليه من علمهما في صنع مخاريقه بإذن الله تعالى ثم هو يدجل على الناس فينسب هذه القدرة إلى نفسه لا إلى الله عز وجل .. وقبل أن أخوض في بيان ما أمكنني استخلاصه من هذه النصوص
فلا مانع على وجه الإطلاق أن يكون هاروت وماروت من الجن .. وأنهما كانا نبيين من أنبياء الجن .. وأنهما كانا في حكم الملكين من جهة عصمتهما لا من جهة خلقهما .. فإبليس كان من الجن وأمره اله بالسجود مع الملائكة ثم فسق عن أمر ربه لقوله تعالى: (
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف: 50] .. وهذا يؤكد أصل خلقة إبليس كواحد من الجن وكونه كان من الملائكة فهذا كناية عن عصمته لا عن خلقته
فقد شبهت النسوة يوسف عليه السلام بملك كريم في قوله تعالى: (
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف: 31] وهذا ليس تشبيه صوري تعبيرا عن جماله وحسن خلقته لأن النسوة لم يرون ملكا من قبل حتى يشبهنه به .. فلا يقصدن من قولهن أنه ملكا على حقيقته .. وإنما يقصدن معنى ملازم للمعنى الحقيقي للملك وهو العصمة من الوقوع في الفواحش وهذا تعبيرا عن عصمته .. وتلك العصمة هي ما أكدت عليه امرأة العزيز حين قالت (فَاسْتَعْصَمَ) من قوله تعالى: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف: 32]
والآن أترككم مع بحثي ثم سوف أستكمل التوضيح والشرح بإذن الله تعالى
علم هاروت وماروت

الكاتب: بهاء الدين شلبي.
إن الله تبارك وتعالى قد آثر بعض خلقه بعلوم خاصة متفردة، فيتحقق بها ما يعجز عنه بني الجنس الواحد بقدراتهم المعتادة، مما يدل على وجود علوم مغيبة عنا يمكن بها إنجاز الكثير مما نعجز عنه كبشر، ولكن تظل هذه العلوم مغيبة عنا، ولا نعلم شيء عن تفاصيلها أو مضمونها، والمهم في هذا أن ندرك أن علمنا كبشر محدود جدًا، فكثير من الأمور التي تحدث حولنا لا يصح أن نحكم عليها بعلمنا المحدود، فما نعده في بعض الأحيان خوارق، ما هو إلا فوائق للعادات خاضعة لسنن كونية، ولها تفسير علمي، ولكن ليست كل العلوم معروفة لنا كبشر.فالقرآن الكريم يثبت وجود علوم كثيرة مغيبة عنا، فهذه الفوائق تحدث وفق سنن كونية لا زلنا نجهل كثيرًا من أسرارها، فليس كل ما نجهل أسراره يصح نسبته إلى المعجزات والكرامات، لأن المعجزة من صنع الله مباشرة، كمعجزة خلق المسيح عليه السلام، فلا يخرق العادات إلا من خلقها، أما ما يقوم به المخلوق إنسا أو جنا أو ملائكة فهو خاضع لسنن كونية علمها من علمها وجهلها من جهلها، فهناك علوم يدركها البشر، بينما هناك علوم يدركها الجن ويجهلها البشر، وهناك علوم تعلمها الملائكة ويجهلها الإنس والجن، فينظر إليها الجاهل على أنها خوراق ومعجزات طالما عجز عنها، وهي في حقيقتها مجرد فوائق لعادات الجنس الواحد، أو عدة أجناس مختلفة، بينما هي عادات لجنس آخر مختلف.
سوف أسوق عدة نماذج قرآنية تشهد بوجود علوم فوق العادة، اختص الله عز وجل بها بعض عباده، فمنهم من استخدمها في طاعة الله تعالى فرفعه بها في الدنيا والآخرة، ومنهم من استخدمها في معصية الله تعالى فاستحق غضبه وعقابه في الدنيا والآخرة، وفي المقابل هناك ما هو علم شر محض لا خير فيه، ويخسر صاحبه الدنيا والآخر، وهو (علم السحر)، وهذا علم باطل لا يصح نسبته إلى الله عز وجل، وهو علم خاضع لخصائص قدرات الجن، وفق سنن كونية مجهولة للإنس، ويعجز البشر عن الإتيان بما يحققه السحر.
_ آثر الله عز وجل آدم عليه السلام بعلم لم يعلمه للملائكة، قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ*قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَاكُنتُمْ تَكْتُمُونَ( [البقرة: 31؛ 33].
_ فقد علم الله نبيه الخضر عليه السلام من لدنه علما لم يكن لدى موسى عليه السلام، فالله قد يصطفي نبي بعلم لم يختص به غيره من الأنبياء، قال تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( [الكهف: 65]، فعرف بهذا العلم من الغيبيات الماضية والحاضرة والمستقبلية ما عجز موسى عليه السلام عن الصبر على الجهل بها، فما صبر على ما أنكره من أفعال الخضر عليه السلام، فكانت تصرفاته مبنية على معرفة غيبية مما علمه الله عز وجل، فلم يكن يعرف الغيب بذاته كما يزعم الكهان والعرافين، ولكن عرفه بإعلام الله تعالى له، ففعل ما فعله بأمر الله عز وجل وليس عن أمره، قال تعالى: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) [الكهف: 82] فعرف ما في الحال بقدوم الملك ليغتصب السفينة، وعلم ما سيكون عليه حال الغلام في المستقبل من فتنة والديه، وعلم ما كان مدفونا في الماضي من الكنز تحت الجدار.
_ هناك أحد الجن المسلمين من ملأ سليمان عليه السلام كان عنده علم من الكتاب، فاستطاع نقل عرش ملكة سبأ في أقل من لمح البصر، قال تعالى: (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل: 40]، بينما عجز سليمان عليه السلام عن الإتيان به من تلقاء نفسه، مما يعني أن الله اختص أحد ملأه بعلم لم يكن لديه، كما اختص الله تعالى الخضر عليه السلام بعلم لم يكن لدى موسى عليه السلام.
_ هناك علم شريف منيف يفوق قدرات الجن وهو (علم الملكين هاروت وماروت) أنزله الله عليهما، فكان فتنة للجن في مقابل علم السحر، فكان ابتلاءا وامتحانا لهم، قال تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ) [البقرة: 102]، فتلقته شياطين الجن واستخدمته في السحر والتفريق بين المرء وزوجه، بدلا من استخدامه في الخير ونصرة الدين، قال تعالى: (فَيَتَعَلَمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرَّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ).
_ لقد آتى الله (قارون) ثروة طائلة في زمن قصير بعلم خاص جهله أهل عصره، فأنكر فضل الله ونسب العلم لنفسه، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78]، ولو كان ماله جاء بعلم محرم لترتب على ذلك حرمة ماله، ولو كان ماله حراما لما طالبه الله تعالى أن يبتغي به الدار الآخرة، فالحرام لا ينال به الجنة.
_ وأخيرًا هناك علم السحر، وهو كفر محض نسبه الله تعالى إلى الشياطين، ولم ينسبه لنفسه عز وجل، قال تعالى: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يَعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [البقرة: 102]، ومن يتعلمه يستطيع صنع فوائق للعادات يتفوق بها على بني جنسه.
سوف نتناول بالبحث واحدًا من بين هذه العلوم، ونبين مدى صلته بالجن والسحر، وهو العلم المنزل على هاروت وماروت، حيث زعم اليهود والسحرة أن العلم المنزل عليهما هو (علم سحر)، وهذا ما نفاه الله عز وجل، في قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يَعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرَّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وإن كان هذا العلم مصدره الملائكة فلا يتفق أن يكون سحرا كما يروج السحرة واليهود، فيقولون كذبًا وزورًا؛ (سحر هاروت وماروت)، لأن السحر قائم على الكفر والندية لله تبارك وتعالى، والكفر يتنافى مع عصمة الملائكة، ويتعارض أن يكون الدين عند الله الإسلام ثم ينزل من لدنه علم السحر وهو كفر، فالضدان لا يجتمعان ولا يرتفعان معا.
من السلف من نفي الزعم القائل بأن علم هاروت وماروت كان سحرًا، فمن تفسير ابن كثير عليه رحمة الله قال: (وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي، عن ابن عباس، في قوله: (وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) يقول: لم ينـزل الله السحر. وبإسناده، عن الربيع بن أنس، في قوله: (وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال: ما أنـزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: (بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) -”من السحر”- (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وما أنـزل الله “السحر” على الملكين، (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، وردًا عليهم. ( هذا لفظه بحروفه) ا. هـ
إن علم هاروت وماروت قاصر تلقيه على الجن، وهذا لعجز الإنس على التواصل مع الملائكة والالتقاء بهم، وبالتالي لا يمكن للإنسي تلقي هذا العلم عن الملكين مباشرة إلا بواسطة الجن، فقد ثبت أن الجن يرون ما لا نراه من العوالم الغيبية كالملائكة، وهذا ما أقر به الشيطان لعنه الله من قول الله تعالى: (إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ) [الأنفال: 48]، فرؤية الملائكة من خصائص قدرات الجن، يستوي في ذلك مؤمنهم وكافرهم، بل وفي قدرتهم سماع كلام الملائكة أيضًا، قال تعالى: (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا) [الجن: 8، 9]، إذًا فالجن يرون حراس السماء الدنيا من الملائكة، ويسترقون السمع من الملائكة، وهذا شاهد قوي يدل على رؤية وسماع الجن للملائكة، فإن ثبتت هذا في قدرة شياطين الجن، فمن باب أولى أن يثبت في حق الصالحين منهم أيضا، وعليه فهذه القدرات مما اختص الله بها الجن عمومًا، فإن كانت رؤية الملكين هاروت وماروت قاصرة على الجن، ومستحيلة في حق الإنس فإن هذا العلم يقصر تلقيه على الجن دون الإنس، وما يشيعه السحرة من إمكان الالتقاء بالملكين لتلقي هذا العلم عنهما، هو تدليس لا أصل له في شرع الله، هذا إن لم يكن يتعارض مع النصوص، وأي زعم بعد هذا فليس إلا تلبيس من الشياطين.
إن عجز الإنس عن التواصل بالملائكة لا يمنع وصول (علم هاروت وماروت) إليهم، ولكن من الممكن أن يصل بشكل غير مباشر عن طريق الجن، وليس بمباشرة التلقي عن الملكين، وهذا تجاوز في ظاهر الأمر، فرغم أنه علم حلال إلا أنه لم يبلغ في علمي أن أحد من البشر وصل إلى هذا العلم، لكن هذا لا يمنع أن الجن قد نقلت هذا العلم إلى بعض البشر، وهذا عن طريقين لا ثالث لهما، الطريق الأول من خلال إدخال علم هاروت وماروت في علم السحر، وهذا تشويه لهذا العلم الشريف، وطعن في عصمة الملائكة ورفعة منزلتهم، والطريق الثاني أن الجن المسلمين نقلته إلى الإنس، وهذا ليس له شواهد تؤيده، وعلى هذا فلدى الجن علم حق أعلى وأشرف من علم السحر الباطل، يمكن بواسطته تحقيق الكثير مما يعجز الجن عن الإتيان به، وهو العلم المنزل على (الملكين هاروت وماروت)، وإذا كان هذا العلم يفوق قدرات الجن ويحقق لهم ما يعجزون عنه، فهذا يقتضي تفوقه على قدرات الإنس أيضا، فطالما أنه علم أنزل على الملائكة واصطفاهم الله به على الإنس والجن، إذًا نستطيع القول بأن علم هاروت وماروت هو (علم ملائكي)، من حيث من اختصوا بهذا العلم وأنزل عليهم، وإن كان في الأصل أنه (علم رباني) من حيث أنه علم منزل الله تبارك وتعالى.
تعليم هذا العلم شمل الجن عموما مؤمنهم وكافرهم، لقوله تعالى (وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ)، فقوله (مِنْ أَحَدٍ) ليس فيه تخصيص لشياطين الجن من دون المسلمين، وهذا ينفي الزعم الباطل بأنه سحر، فالجن الصالح لا يتعلم السحر لحرمته، وعلى هذا يحمل معنى الآية على تعليم الملكين للجن عمومًا، مؤمنهم وكافرهم، مما يدل على أن الجن المسلمين لهم نصيب من هذا العلم، مما يمنحهم القدرة على مواجهة سحرة الجن بهذا العلم، قال تعالى: (حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ)، فالدخول في الكفر لا يتحقق إلا بالخروج من الإيمان، أو بالإيغال في الكفر من بعد كفر، وعلى هذا يتحقق أن من يتعلمون هذا العلم ليس شرطا أنهم شياطين في الأصل، ولكن يدخل في تعلمه الجن المسلم أيضا، لكن بطبيعة الحال ليس هذا العلم مما هو متاح لدى كل جني، إنما متاح لخاصتهم وأكابرهم، فلو أتيح هذا العلم لسفهاء الجن وعامتهم لصارت فوضى نتيجة سوء استخدامه، فمن البديهي وجود عقبات كثيرة أمام الجني يتطلب منه تجاوزها حتى يصل إلى هذا العلم.
هذا العلم ما هو إلا اختبار للجن من الله تعالى وابتلاء لهم، قال تعالى: (حَتَى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ)، والفتنة هنا لا تفيد أن هذا العلم شر، بل تثبت الابتلاء والاختبار الناتج حرية استخدام هذا العلم في الخير أو الشر، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35]، مما يشهد أن علم الملكين لا يحمل كفرا في ذاته، ولكن من يتعلمه مخير في أن يستخدمه إما في الخير وإما في الشر، ولكن الآية الكريمة أثبتت أن الشياطين تستخدمه في الشر، كالتفريق بين المرء وزوجه، وبهذا أدخلوا طرفا من علم هاروت وماروت في السحر، مما دعم السحر وزاده قوة وتأثيرًا في المسحور، وهذا أكسب سحر الجن لبعضهم بعضا قوة تفوق قدراتهم كجن، وإدخال هذا العلم في السحر كان سببا في إحكام الشياطين قبضتهم بالسحر على ملك سليمان عليه السلام، ومنهم جنوده من الجن المسلمين، في الوقت الذي صار السحر معضلا بالنسبة للبشر ومستعصي عليهم التعامل معه، وهذا بدوره يشكل عقبة كبيرة أمام المعالجين، فكيف بنا الحال لو كان هناك علوما أخرى شبيهة بهذا العلم لا يعلمها أغلب الجن أنفسهم؟ إذًا فنحن المعالجين في واقع الأمر جهلاء، ونتخبط في منهج العلاج، خاصة وأنه تحكمنا التجربة لا المنهج العلمي، فيجب أن نفرق بين مشروعية المنهج، وبين صحة المنهج، فالمشروعية لا تقتضي بالضرورة صحة كل ما يقوم به المعالج وفق السنن الكونية الخاضع لها الجن، وإذا قام أحد واجتهد واكتشف الجديد، رموه بالبدعة والضلالة وكأنه خرج على مشروعية العلاج، فلا مانع من ظهور الجديد بشرط أن لا يتعارض والثوابت الشرعية، لكن أن نجعل من التأصيل والتقعيد حكما على صحة كل جديد، فهذا منهج يخالف العقل الحصيف، لأن التأصيل والتقعيد مرتبط بالمشروعية لا بالسنن الكونية المجهولة لدينا.
يجب أن نتبنه إلى أن سحرة الجن لا يمكن أن تقدم علم هاروت وماروت مجردًا أمام سحرة الإنس، ينهلونه غضا طريا كما أنزل، ولكن يزجون بطرف منه في السحر، حتى لا يدري الساحر أيهما هو العلم الحق وأيهما العلم الباطل، لذلك نرى أن السحرة يزجون بكلام الحق من كتاب الله تعالى في سحرهم، وهذا مما يكسبه قوة، وهي قوة المعصية، فبكل معصية يقيض الله بها شيطانا يقترن بالساحر، فيزداد سحره قوة بهذا القرين، فبدخول هذا العلم في السحر صار استخدامه باطلا، لأنه صار يستخدم فيما يضر ولا ينفع، ليحتفظ الشياطين لأنفسهم بالسيادة على سحرة الإنس فزادوهم رهقًا، وليمعنوا في إضلالهم والسيطرة عليهم، فيتيحون لهم من العلم ما يحقق مآربهم من استقطاب سحرة الإنس، وليكسبوا سحرهم ما يفتقده من قوة متوفرة في علم هاروت وماروت، وبالتالي يحقق لهم طموحاتهم في السيطرة على المسلمين من الثقلين، ليكون لهم بذلك العلو في الأرض، وهذا مما يتفق والأهداف التي يسعى اليهود لتحقيقها من السيطرة على العالم بأسره، والذين امتدت سيطرتهم من داخل نطاق الكرة الأرضية، إلى السبق في غزو الفضاء خارج مجال الجاذبية الأرضية، ومحاولة ارتياد الكواكب الأخرى، وبالتالي احتكار (علوم الفضاء) بسيطرتهم على رأس المال العالمي.وإذا كانت الجن تتعلم من الملكين ما أنزله الله عليهما من علم شريف منيف، إلا أنه من الواضح أنه علم معجز يفوق علم السحر، وبالتالي فهو آية وحجة عليهم في مقابل السحر، ليعلموا حقيقة أن السحر كفر مبين ولا يغني من الحق شيئًا، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)، فهو علم يليق بجلال الله تبارك وتعالى منزل هذا العلم على الملكين، فهو علم جدير بهما كملكين كريمين، وبالتالي فهو معجز للجن ولسحرتهم خصوصا، فلا يستطيعون الإتيان بمثله، وبالتالي كان حجة عليهم كجن، وليس حجة على الإنس الذين لا يعلمون شيئا من تفاصيله، هذا عسى أن يرتدعوا وينتهوا عما بين أيديهم من السحر، ولأن هذا العلم معجز، فتأثيره أشد قوة من تأثير السحر، وبالتالي فهو فتنة لما فيه من قوة لا يضاهيها ما في أيدي سحرة الجن من علوم السحر، وبالتالي فعلم هاروت وماروت تستخدمه شياطين الجن للسيطرة على الجن أمثالهم، وخاصة في السيطرة على أكابر الجن المسلمين، ويزداد تأثير تعقيدا إذا كان سحر مشترك بين الجن والإنس ضد الإنس أو الجن المسلمين، لذلك فهذا العلم فتنة أي اختبار لمتلقيه وهذا من قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ)، فإن كان هذا العلم معجزًا، إذًا فمن المحال أن يكون الهدف من تعليمه هو الكفر، فإن لم يمكن كفرًا في ذاته، إلا أنه من الممكن استخدامه في أعمال كفرية.
فكما نسب اليهود كذبا تعليم السحر إلى سليمان عليه السلام، فكذلك كذبوا فنسبوا تعليم السحر إلى الملكين هاروت وماروت، وهذا نقلا عن شياطين الجن، وهذه هي طامة النقل عن الجن بغير بينة من الشريعة والعقل، فسرب اليهود ضلالات شياطين الجن ويحسبون أنهم مهتدون، رغم أنه علم أنزل عليهما، والإنزال لا يكون إلا من الله عز وجل، لقوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)، فنفى الله عز وجل الكفر عن سليمان عليه السلام، فقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)، ونسب تعليم الناس السحر وهو كفر إلى الشياطين، فقال: (وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)، وأثبت أن علم هاروت وماروت منزل عليهما مما يقتضي سلامته من الكفر، وأنه ليس بسحر، فالشياطين لا تنقل علم الملكين إلى السحرة مستقلا عن علوم السحر، بل تطمس جميع معالمه بإدخاله في السحر.
والخلاصة أن الشياطين يستخدمون علم الملكين هاروت وماروت في أفعال الشر والضرر، وهو علم شريف منيف يمكن استغلاله في الخير كما يمكن استغلاله في الشر، فحامل هذا العلم في وضع اختبار، فأدخلوا هذا العلم في السحر، ثم نسبوا علم السحر إلى الملكين الكريمين هاروت وماروت، فالعلة ليست في علمهما ولكن العلة فيمن يستخدم علمها في الشر لا في الخير، فأساءوا بذلك إلى العلم المنزل من الله على الملكين كما أساءوا إلى سليمان عليه السلام، وما هو إلا ابتلاء للجن واختبار لهم، فاستخدموه فيما يضر ولا ينفع، هذا لأن السحر ضرر محض لا نفع فيه، قال تعالى: (وَيَتَعَلَمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ)، وهذا فيه إشارة على أن شياطين الجن كانت تدلس على سحرة الإنس من اليهود، فتضع مع علوم السحر وفنونه بين ما هو من جملة علم هاروت وماروت، خاصة وأن بعض أنواع السحر تستخدم فيه بعض الأسماء الشريفة والآيات الكريمة من الكتب المنزلة، وبذلك يدلس عليهم ويحسبون أنهم على حق، فالصوفية على سبيل المثال يتبعون ما في كتب السحر مثل كتاب (شمس المعارف الكبرى) للبوني، ولو طالعنا هذا الكتاب وما شابهه من الكتب والمصنفات، سوف نجد المؤلفين يمدحون هذا العلم ويجعلون منه أجل وأخص العلوم، فيسمونه (الحكمة) وما هو إلا عين السفاهة والبرطيل.

المصدر:
علم هاروت وماروت | مدونة: جند الله
يـتـبـع





رد مع اقتباس